جدتي والصدقة "
بقلم : حفيدها
ـــــــــــــــــــــــــ
جدتي الغالية هي خالة الوالدة ..
عمرها يزيد على السبعين ..
صالحة .. تقية ..
كانت من (عشاق) الصدقة ..
حتى أنها باعت ما معها من حلي بما يربوا على 100 ألف ريال ..
وجعلتها صدقة لله .. !!
تم جرد بعض صدقاتها من قبل من قبل شخص واحد ..
فربت على المليون ريال !! إضافة إلى بناء مسجد .. ولا تسل عن صدقات رمضان ..وعن صدقات السر التي لم نعرفها ..
وكان تستحلف من يأخذ منها المال والصدقات ليوصلها أن لا يخبر بها أحدا ..
ولكن يأبى الله ليعرف الناس بخيرها وصدقاتها ..
حفرت بئرا في اليمن وبنت مساجد في الخارج وكفلت 64 يتيم ..!!
هذا غير صدقات رمضان وتكفلها بأرزاق أسر فقيرة وما خفي كان أعظم ..
كانت تحبني حبا جما وترى ( المؤمن كالغيث ) قرة عينها وفلذة كبدها ..
دعمتني في مسيرتي العلمية بدعواتها ومالها في بداية الطلب والسفر ..
فو الله .. لكن كان لها علي من الفضل ما لا يعلمه إلا الله ..
فكانت لي بمثابة الوالدة ..
لا تبرح إلا مصلية أو ذاكرة ربها ..
أصيب ( بحلطة دخلت على إثرها ) العناية المركزة ..
جاءنا الخبر .. وذهلنا .. فكيف بن كان أحب إلي من نفسي .. وروحي ..
ويقولون إنها أشرفت على الهلاك ..
والزيارة مقننة .. لها ..
انطلقت لها .. وكاد قلبي أن يطير لم أكن مستعدا لأن أراها ..
وهي أحب مخلوق .. على سرير أبيض .. وقد بلغ منها العناء مبلغه ..
تسارعت خطاي ومعي إحدى القريبات ..
دخلنا إلى المستشفى ..
قابلنا أحد المسئولين .. أين العناية المركزة ؟؟
فلما دخلنا . وجدنا كوكبة من الناس يسألون عن حالها ..
دخلت ووجدت بعض بناتها ولم أسلم على أحد فالقلب حينها هواء خوفا ووجلا على أغلى إنسانة ..
هنا غرفتها ..
دخلت .. ويا ليتني لم أدخل ..
\جدتي .. وغاليتي ..
ومن يعجز القلب عن وصف حبي لها ..
قد فتحت فمها .. مغمضة العينين .. ومستورة بغطاء وقد أشبعوا فمها من الأنابيب .. وقد امتلأ فمها .. دما متخثرا .. جرح ذلك الفم الطاهر ..
من الأنابيب ..ويدها قد ملئت بالإبر المغذية ..
شاحبة اللون .. مصفرة حية في ثياب الموت ..
دخلت عليها .. وهي في شبه غيبوبة ..
تخيل وأنت ترى أحب مخلوق لديك على هذا الحال ينازع الموت منازعة
مشهد يتفطر لرؤيته الجماد فما بالك بحالنا
لا أراك الله فيمن تحب شرا ..
سلمت على يدها الشريفة العفيفة ..
وحاولت مخاطبتها .. وتشهدت بجوارها .. لعلها تسمع تشهدي فتذكر الله وإذا بي أفاجأ وهي في هذه الحال ..
بأنها قد سبقتني تذكر الله جل جلاله ..
ولا أشك في أنها فاقدة الوعي ..
أمسكت نفسي .. وتمالكت ..
لأفاجأ بقريبتي تنهار بالبكاء .. فأسرعت بالخروج ..
وقد ضاقت علي الرحيبة ..
اتصلوا علي في الغد وقالوا نبشرك أنها طابت وتحسنت حالتها ..
ذهبت لها مباشرة وكم كانت تسر إذا رأتني ..
ودخلت عليها
دخلت عليها ..
وكلي فرح وسرور أنها عاشت حتى اظفر منها بكلمة .. بأي شيء بنظرة ..
أسمع صوتها الذي حرمت منه لسفري للدراسة بالمدينة ..
وإذا بها تخاطبني لم تكلم غيري حينها رغم امتلاء الغرفة ..
فقد وصل حبيبها .. وابنها ..
كيف حالك يا جدة ؟؟
الحمد لله على السلامة ..
فتهز رأسها توحي بأنها طيبة ثم تتكلم معي بصعوبة ..
كيف حالك يا ( المؤمن كالغيث ) ؟
إنت طيب ؟؟
الحمد لله يا جدة أبشرك ما دام أنتي طيبة .. أنا طيب ..
الله لا يوريك بعد اليوم مكروه ..
أدافع العبرة .. وقد أمسكت يدها التي أصبحت كالورقة .. من شدة المرض ..
ما شاء الله .. صحتك روعة يا جدة ..
طابت نفسي بعد مخاطبتها نوعا ما
.. كثيرا خشيت أن أودعها ولم تكلمني كلمة ..
وبعد ثلاثة أيام ..
وبالتحديد بالأمس
اتصل علي قريب ..
السلام عليكم كيف حالك ؟
بخير .. الصوت لا يوحي بخير ..
خير عسى ما شر .. وش فيك ؟؟
قال عظم الله أجرك لقد ماتت جدتك صباح هذا اليوم في جدة ..
وسنصلي عليها في المسجد الحرام في مكة
آه .. يا ليت يدي لم ترفع ويا ليت أذني لم تسمع ..
ليت الأرض انشقت وابتلعنني قبل أن أنعى في أكثر مخلوق تعلق قلبي بها
آه .. عجز القلم ..
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك ..
يا جدتي لمحزونون ..
بقيت في حالة ذهول ..
لأجد نفسي مسافرا إلى مكة ..
يحاولون إضحاكي من سافر معي أو على الأقل أن يحظوا مني بقصة أو كلمة ولكن هم في عالم وأنا في عالم ..
سأحرم من رؤيتها رؤية وجهها قبل الوداع
سأحرم .. من تقبيلها .. من كلمة من الحنونة العطوفة ..
تمنيت أن أسمع صوتها لأتذكر خطابها الحاني معي أيام الصحة ..
كانت تشعر بصحتي إن كنت في صحة وبألمي إن كنت في ألم ..
كم كانت تعتب علي ..
ليه ما تزورني قبل ما تسافر المدينة .. !!
أقول يا جدة ما ودي أكلف عليك ..
تقول لي الله يسعدك يا ( مؤمن ) تكفى ادعيلي أنا مريضة .. حينما أكون في المدينة ..
تكفى وأنا جدتك ... ادعيلي ..وإنت في ذاك البيت الشريف في المسجد النبوي ..
آه .. نزلت وصلت لمكة .. دخلت المسجد الحرام ..
طفت تحية للمسجد ..
لا أدري أين أنا ؟؟
فصورتها أمامي ... لم أستطع نسيانها ..
أذن الظهرو قامت الصلاة ..
وإذا بجنازة .. الشريفة العفيفة .. قد ملئت هيبة وجلالا وحولها الصغير والكبير وقد انهالت على خدودهم
سيولا من الدموع الحرى ..
كم من بيت فقير ؟ سيقطع عنه صدقتها والله هو الرزاق ..
كم من مشروع ؟ سيفتقد أموالها المباركة .. والله هو ذو الفضل والجواد
آه .. كم من محب لها من صغير وكبير سيفتقد صوتها ..
وقفنا أمام الإمام بالجنازة وكان شيخا معروفا
وقد اغرورقت عيناه بالدموع ولا أدري .. أشعر ما بخاطري .. أم له في الجنازات التي وضعت أمامه
من افتقده .. ؟؟ لا أدري
أخذنا الحبيبة .. نحو سيارة الإسعاف ..
وقد تجمهر الناس .. ليحملوها ..
فلما وضعناها في السيارة ..
ركبت معها ..
وحينها استوعب عقلي قليلا
بأن جدتي قد ماتت ..
تذكرت فقط أنها ماتت وقد رفعت السبابة متشهدة ..
تذكرت صلاحها وحبنا لها ..
ففاضت عيناي ليس جزعا وإنما حزنا ..
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك جدتي لمحزنون ..
أمسكني أخي .. وقال اصبر ..
كنت أصبر من حولي فإذا وجدت منهم غفلة عني أخرجت ما أثقل قلبي ومقلتي فأسبلت الدمع ..
ثم أعاود النظر للناس وكأن شيئا لم يكن وصلنا المقبرة نحن الآن على فم القبر ..
الذي ملئ وحشة وضيقا ...
نضع فيه أحب مخلوق في أوحش مكان وأبشع موضوع إنه القبر ..
نظر الناس بعد أن نزلوا اثنين وإذا بابنها الكبير ..
يشير علي بأن أنزل .. نزلت ..
استقبلت جنازة الجدة .. ساهمت .. في وضعها .. في القبر
أمسكت بكتفها .. وضغطت عليها ضغطة .. ونحن في أثناء التعديل .. للجنازة كما ينبغي كشف عن وجهها ..
فظفرت بنظرة إلى وجهها المشرق وقد ملئ نورا وبهاء ..
آه هذه الحانية أصبح حالها هكذا آخ يا دنيا ما أحقرك ..
صعد الإثنين وبقيت أنا وجدتي في القبر ..
وكلي أمل أن تسمع
حبيبتي كما لم تنسني في الدنيا
لن ننساك وأنت في الآخرة ..
استودعتك الله في قبر مظلم موحش و والله لولا سنة الله في خلقه لما مس التراب جسدك ..
ولا أصابك ذرة سوء ..
استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه ..
في أمان الله ..يا جدة !!
لن ننساك من دعوة صادقة
ولا من صدقة جارية ..
وقبل أن أخرج قلت بصوت مسموع :
أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه
يا جدتي .. نعم ..
ستودعتك الله يا أغلى جدة ..
رحكم الله وأسكنكم الجنة .
ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ