فالكياسة والذكاء والفطنة ، طلاقة اللسان هذا من لحن القول ، وفساد المنطق في الإعراب أيضاً من لحن القول ، وبالمناسبة اللحن في اللغة هو الخطأ في الإعراب ، ولحن أمام النبي عليه الصلاة والسلام أحدهم فقال عيله الصلاة والسلام :
"ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل " .
( من كنز العمال )
ممكن أن يضاف إلى هذا فلتات اللسان ، كتعبر أحدهم عن نفسيته بكلمة قد تأتي عرضاً ، مدح رجل أحدهم وهو لا يحبه ، فقال له بيتاً قاله الإمام الشافعي :
أحب الصالحين ولسـتَ منهم لعلي أن أنـال بهم شـفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي ولـو كنا سواءاً في البضاعة
* * *
أحب الصالحين ولستَ منهم ، هو يقصد أحب الصالحين ولستُ منهم، قال له : ولستَ منهم . فهذه من فلتات اللسان ، بغضه ظهر ، عبر عن نفسيته .
أثناء الحديث بين الناس تسمع كلمات تظن أنها خطأ ، هي ليست خطأً ، خرجت لتعبِّر عن حالةٍ نفسية .
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله "
العلماء قالوا : لعل حقيقة الفراسة أن الله عز وجل يقذف نوراً في قلب عبده المؤمن ، فيرى بهذا النور الحق حقاً والباطل باطلاً ، يكشف الخبايا ، نور يخترق ، فالمنافق مخترَق من قبل المؤمن ، مكشوف ، وهذه كرامةٌ للمؤمن أن يخترِق الإنسان ظواهر الناس .
وكان عليه الصلاة والسلام يحترس من الناس ويحذرهم من غير أن يطوي بشره عن أحد.
وقال بعضهم : الفراسة فوق أنها نور يقذف في القلب ، خاطرٌ يهجم على القلب ينفي ما يتراءى للإنسان في ظاهر الأمر ـ بالظاهر إنسان برئ لكن يأتي خاطر يهجم على القلب ـ يثب على القلب كوثب الأسد على فريسته .
وقال بعض العلماء وكان حادَّ الفراسة ، لا يخطئ من يقول : من غض بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشهوات ، وعَمَرَ باطنه بالمراقبة ، وظـاهره باتباع السنة ، وتعوَّد أكل الحلال ، لم تخطئ فراسته .
وقال بعض العلماء : الفراسة أول خاطرٍ بلا معارض ، فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو حديث نفس وليس فراسةً . بلا معارض .
أحد العلماء يقول : الفراسة لا تكون إلا من غرس الإيمان ـ ليس هناك فراسة دون إيمان أبداً . شبَّه الإيمان بالغرس لأنه يزداد وينمو ويزكو على السُقيا ، ويأتي أُكُلَه كل حينٍ بإذن ربه ، أصله ثابتٌ في الأرض وفرعه في السماء ، فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية ، وسقى تلك الغراس بماء الإخلاص ، والصدق والمتابعة ، كان من بعض ثمره الفراسة .
فالفراسة رؤية عميقة ، قلما تقع بورطة ، قلما تقع ضحية خديعة ، عندك فراسة .
ابن مسعود رضي الله عنه يقول : أفرس الناس ثلاثة ؛ العزيز في يوسف ، إذ قال لامرأته:
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ
( سورة يوسف : من آية " 21 " )
وهم لا يشعرون ، وابنة شعيب حين قالت لأبيها :
يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
( سورة القصص : من آية " 26 " )
وسيدنا أبو بكر في عمر رضي الله عنهما حينما استخلفه ـ فراسته ـ قيل له : يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله أتولي علينا أشدنا ، ألا تخاف الله؟ فبكى وقال : " لو أن ربي سألني لقلت له يا رب وليت عليهم أرحمهم ، هذا علمي به فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب " . فراسة .
أفضل إنسان بعده سيدنا عمر ، وامرأة فرعون وهي صديقة كما قال عليه الصلاة والسلام:
" كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ..."*
( من صحيح البخاري : عن " أبي موسى " )
وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
( سورة القصص )
هذه أربع فراسات وردت في كتاب الله .
وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسةً ، وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووقائع فراسته مشهورة ، فإنه ما قال لشيءٍ أظنه كذا إلا كان كما قال ، ويكفي في فراسته موافقته ربه في المواضعٍ معروفة ـ أي أنه له عدة رؤى ، واجتهادات جاء الوحي بها ، حتى هناك كتاب اسمه موافقات سيدنا عمر ، له رؤى واجتهادات الوحي نزل باجتهادات عمر رضي الله عنه ، فكان من أعظم أصحاب رسول الله فراسةً .
فمن عصى الله من أجل إنسان وأرضاه ، هذا الذي أرضيته وأسخطت الله عز وجل ، لابدّ من أن يسخط الله عليك ويُسخط عليك هذا الإنسان ، وإذا أغضبت إنساناً في طاعة الله لا بدَّ من أن يرضى الله عنك وأن يُرضي عنك هذا الإنسان ، فهذه الكلمة : " من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً " .
فموضوع الحفظ الله عز وجل يقول في محكم كتابه :
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
( سورة يوسف : من آية " 64 " )
الإنسان أحياناً يسافر ، فاثناء سفره هل يضمن أن ابنه خرج من البيت ، وسيارة طائشة أصابته بحادث ؟ أيضمن حدوث خلل بالبيت ؟ ارتعب الأهل ؟ دخل غريب الدار ؟ مرض الأهل والولد ؟ أما المؤمن إذا أزمع السفر يدعو بهذا الدعاء :
" اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ "*
( من صحيح مسلم : عن " الحجاج بن محمد " )
بهذا الدعاء تحس أعصابك تخدرت ، الله خليفتك بالبيت ، يحفظ أهلك وأولادك ومالك وكل شيء ، وترى أدلة ، ترى كيف أن الله عز وجل حفظ لك ولدك من حادث خطير ، نجا بأعجوبة، هذا حفظ الله عز وجل قال :
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
( سورة يوسف : من آية " 64 " )
لكن ما عند الله لن تناله إلا إذا اتبعت منهجه ، حفظ المال بتأدية الزكاة ، حفظ الجوارح بطاعة الله ، عينٌ تغض عن محارم الله ، عين تبكي من خشية الله ، ترثها ؟ لا ترثك ، في فرق بين أن ترثها وأن ترثك..
" وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا "*
( من سنن الترمذي : عن " ابن عمر " )
فالإنسان المؤمن ما دام لسانه ينطق بالحق ، وبصره ينظر إلى آيات الله لا إلى عورات المسلمين ، وسمعه يستمع به الحق ، ما دام المسلم هكذا أغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى يحفظ له هذه الجوارح ، أي أن في حالة اسمها حالة الأمن ، المؤمن يشعر بأن الله سبحانه وتعالى لن يضيّعه هذا معنى قوله تعالى :
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
( سورة الأنعام )
إذن :
( سورة يوسف : من آية " 64 " )
أحياناً الأب عنده حرصٌ على ابنه لا حدود له ، أب ، لكن لو حصل خلل بالخلايا الداخلية ، ونمت هذه الخلايا نمواً عشوائياً ، الأب ماذا بيده أن يفعل ؟ بيده أن يتألم فقط ، أما الإله كل شيء بيده ..
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
( سورة يوسف : من آية " 64 " )
فالذي يحفظ هو الله عز وجل ، أقسم لي بالله رجل يقود سيارته في طريق طويل ، وسرعته عالية ، ونام وهو يقود السيارة ، ورأى مناماً ، واستيقظ في الوقت المناسب قبل أن يقوم بحادث مروع مدمِّر ، فإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟
تلاحظ أن من حكمة ربنا عز وجل أنه أحياناً من اعتمد على ذاته، من اتكل على نفسه ، من اعتمد على ذكائه ، على ماله ، على معارفه ، على أصدقائه ، على اتصالاته ، مثل هذا الإنسان على أتفه الأسباب يدمر ، وربُنا عز وجل حينما يدمره على أتفه الأسـباب يجعله عبرة للناس ..
" ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأرسخت الهوى من تحت قدميه ، وما من عبد يطعيني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني ، وغافر له قبل أن يستغفرني ".
( من الجامع الصغير : عن " كعب بن مالك " )
لذلك أقوى شيء يشدك إلى الدين معاملة الله لك ، بعد أن تصطلح معه ، تشعر بعنايتة ، وتوفيقه ، وإلهامه ، وتسديده ، وحفظه وتأييده ونصره ، في إلهام ، فالله عز وجل يلهمك أن لا تسافر، لأن بالسفر هلاك ، أحياناً تنشأ حوادث ضخمة ، قبل يوم من الاجتياح سحب كل ماله وجاء به إلى بلده ، من اليوم الثاني فقد كل ماله ، يوم واحد من ألهمك ؟ الله عز وجل ..
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا
( سورة يوسف : من آية " 64 " )
كلمة خير حافظاً أي إن اعتمدت على ذكائك ، أو على عقلك ، أو على مالك ، أو على أتباعك ، أو على جماعتك ، أو على صِلاتك ، أو على أشخاص أقوياء ، أو على تخطيطك ، أو على تدبيرك لا ينفعك..
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
( سورة يوسف : من آية " 64 " )
كفار قريش أليست معارضتهم لرسول الله هدفها الحفاظ على ما هم فيه ، فبشكل واقعي ودعك من القيل والقال ، زعماء قريش حينما عارضوا النبي ، وكفروا به ، وكادوا له ، وأخرجوه ، وحاربوه ، واضطهدوا أصحابه ، أليس من أجل أن يحافظوا على مكانتهم في مكة ، وعلى زعامتهم ، وعلى أموالهم ، وعلى شأنهم في الجزيرة فما الذي حصل ؟
دمروا ، وقتلوا ، ومزقوا ، وشردوا ، من الذي انتصر عليهم ؟ رسول الله وأصحابه ، الذين اتبعوه ، هذا شيء متكرر دائماً يؤكده قوله تعالى :
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
( سورة الأعراف )
الأمور تدور وتدور وتدور ، لا تستقر إلا على تكريم المؤمن وحفظه ..
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
( سورة الأعراف )
الحقيقة كلمة حفيظ لها معنيان ؛ المعنى الأول : حفيظ بمعنى عليم، الله لا ينسى ، حفيظ لا ينسى ؛ كل أعمالك ، كل أقوالك ، كل مواقفك ، كل عطاءاتك ، كل منعك ، كل الصراعات التي في ذهنك ، كل ما أنت فيه محفوظٌ عند الله عز وجل .
أيها الإخوة الكرام ... من أمثلة الفراسة التي كان سيدنا عمر متفوقاً بها ، أنه مر به سواد بن قارب ولم يكن يعرفه ، فقال سيدنا عمر: " لقد أخطأ ظني ، أو أن هذا كاهن ، أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية ـ رجل لا يعرفه ، قال : هذا كاهن إن لم يخطئ ظني ، أو يعرف الكهانة في الجاهلية ـ " . فلما جلس بين يديه قال له عمر ذلك : " هل أنت كاهن؟ أو تعرف الكهانة ؟ ".
قال : " سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحداً من جلسائك بمثل ما استقبلتني به ـ لماذا اخترتني بالذات ؟ لماذا قلت لي : هل أنت كاهن ؟ ـ " .
فقال له عمر رضي الله عنه : " ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك، ولكن أخبرني عما سألتك عنه " .
قال : صدقت يا أمير المؤمنين ، كنت كاهناً في الجاهلية . ثم ذكر القصة .
العلماء قالوا : أصل هذا النوع من الفراسة ، من الحياة والنور الذين يهبها الله عز وجل لمن يشاء من عباده ، فيحيا القلب بذلك ، قلبٌ حيّ وفيه نور فلا تكاد فراسته تخطئ ، قال تعالى :
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
( سورة الأنعام : من آية " 122 " )
آية واضحة ، قلبه كان ميتاً فأصبح حياً ، وفي هذا القلب نور يمشي به في الناس ..
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
( سورة الأنعام : من آية " 122 " )
كان ميتاً بالكفر والجهل ، فأحياه الله بالإيمان والعلم ، وفي بعض الأدعية التي أفتتح بها بعض الخطب : " اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات".
فالآية مصداق ذلك :
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا
( سورة الأنعام : من آية " 122 " )
والقرآن هو النور ، يستضئ به في الناس على قصد السبيل ، ويمشي به في الظُلَم .
العلماء قالوا : فراسة المتفرِّس تتعلق بثلاثة أشياء ؛ تتعلق بعينه ، وبأذنه ، وقلبه ، فعينه للسيماء والعلامات ، وأذنه للكلام والتصاريح ، والتعريض ، والمنطوق ، والمفهوم ، وفحوى الكلام ، وإشارات الكلام ، ولحن الكلام ، وإيماء الكلام ، وقلبه للعبور والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه ، فيعبر إلى ما وراء ظاهره ، كعبور النقَّاد من ظاهر النقش والسِكَّة إلى باطن النقد والاطلاع عليه هل هو صحيحٌ .
في فراسة بالعين ، في فراسة بالأذن ، بالعين سيماء ، علامة ، حركة ، حركة غير معقولة ، بالأذن لحن القول ، كلام منمَّق ، مديح غير معقول ، في وراءه قصد ، مرة إنسان وسطني أن أقنع جهة أن تقبل تبرُّع أرض لمسجد ، والله ما كان يخطر في بالي على الإطلاق أن يتبرع إنسان بأرض لمسجد لمصلحة مادية محضة ، في أراضي غير منظمة فإذا تبرع بمسجد تنظم هذه الأراضي ، وترتفع أسعارها إلى أرقامٍ عاليةٍ جداً ، هو يجني أرباحاً طائلة من تقديم أرضٍ لبناء مسجد ، من يعرف ذلك ؟ لو ذكرت هذا لآلاف الأشخاص يكبرون هذا العمل ؛ ولكن الله عز وجل يعلم الحقيقة ، فالإنسان حينما يكون مع الله عز وجل أحد ثمرات هذا القرب من الله أنه يجعل له نوراً يمشي به في الناس .
الإنسان ولا سيما القاضي يميِّز بين الصادق والكاذب ، الخبراء أحياناً بكل قضية فيها مشكلة في تحكيم ، من عنده فراسة يكشف الحقيقة بشكل سريع ـ إنسان رافق قافلة في الصحراء ـ معه مبلغ كبير من الذهب ، افتقد المبلغ ، فجاء شيخ القافلة وحدثه بالقصة ، فجاء شيخ القافلة بخيمة ووضع بها حمار ، وأمر أتباعه أن يدخلوا لهذه الخيمة وأن يمسكوا ذيل الحمار، وأوهمهم أن السارق إذا أمسك ذيل الحمار ينهق الحمار ، وأجبرهم ، في الحقيقة الحمار ما نهق .
ولكن بعد أن دخلوا وخرجوا ، قال : مدوا أيديكم . وضع بذيل الحمار نعنع له رائحة عبقة، فشم أيديهم ، أحدهم لم يظهر على يده أثر النعنع ، قال : أنت الذي أخذت المبلغ ، هوخاف،صدق هذا الكلام ، فلم يمسك بذيله في الخيمة ، فكُشِف . في أيام أشياء معضلة ، الله عز وجل يلهم القاضي أو المحقق فيكشفها ، هذه من الفطنة .
فقالوا : للفراسة سببان ؛ أحدهما جودة ذهن المتفرِّس ، وحدة قلبه وحسن فطنته .
أي أنه قضية ملكات عالية جداً ، وفي قصص كثيرة كيف إنسان عرف الحقيقة بسبب تافه، امرأتان جاءتا إلى قاضٍ ، تدعي كل منهما أن هذا الولد ابنها ، فقال : أقسموه نصفين واعطوا كل مرأة نصف . فالأم الحقيقية قالت : لا هو لها . لأنها شعرت بعطفٍ عليه ، فعرف أمه الحقيقية من أمه الكاذبة .
فالفراسة تحتاج إلى حدة ذهن ، وإلى جودة ، وإلى حدة قلب ، وحسن فطنة .
والشيء الثاني ظهور علامات خفية ، وأدلة على المتفرس فيه ، فإذا اجتمع السببان ؛ حدة ذهنٍ ، وعلامات خفية ، ظهرت على وجه المتفرَّس به ، تكاد الفراسة لا تخطئ ، أما إذا كانت واحدة ، تخطئ وتصيب ، أما إن لم يكن هذا ولا ذاك قلما تصيب الفراسه ، أي ذهن محدود وعلامات غير موجودة ، فالفراسة ليس لها معنى .
قال : إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسةً ، وله وقائع مشهورة .
والإمام الشافعي أيضاً كان له فراسة رائعة جداً ، وإنه له فيها تآليف.
أيها الإخوة ... عودٌ على بدء ، الفراسة أحد ثمار الإيمان ، والحياة فيها مطبَّات كثيرة جداً ، فيها أشخاص مخادعون ، فيها أشخاص خبثاء ، في أشخاص لهم مظهر حسن ، ومخبر سيِّء ، فمن أجل أن تنجو من ورطات ، من إشكالات ، من احتيالات ، الله عز وجل كرَّم المؤمن بفراسةٍ تكاد لا تخطئ .
" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله " .
وهذه الفراسة جزء من النور الذي يقذفه الله في القلب ، والآية الكريمة :
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
( سورة الأنعام : من آية " 122 " )
هذا النور هو الفراسة ، فأنت تختار أحسن الناس ، وأحسن الأصدقاء ، وأفضل الزوجات بهذه الفراسة الصادقة ، فتعرف الطرف الآخر إما بعينك من علامات خفية ، أو من لحن القول ، أو بحدة ذهنك تستنبط من هذه العلامات حُكم ، أو بنورٍ يقذف في قلبك كما قلت قبل قليل يكشف لك الحقيقة .
والحمد لله رب العالمين