الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين وبعد ، فالفراسة مأخوذةٌ من قوله تعالى :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
( سورة الحجر )
فقال مجاهدٌ رحمه الله : أي للمتفرسين .
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : للناظرين .
وقال قتادة : للمعتبرين .
وقال مقاتل : للمتفكرين .
المتوسمين ، المتفرسين ، الناظرين ، المعتبرين ، المتفكرين ، فالتفكر ، والاعتبار ، والنظر ، والفراسة من صفات المؤمن ، وقبل أن نمضي في الحديث عن تفاصيل هذه المنزلة ، لابد من أن أشير إلى أن المؤمن حينما آمن بالله ، وحينما اصطلح معه ، وحينما استقام على أمره، وحينما عمل الصالحات تقرُّباً إليه ، مـاذا يكافئه الله على هذا في الدنيا ؟
يكافئه بأن يملأ قلبه أمناً ورضىً ، يكافئه بأن يملأ قلبه سعادةً وسروراً ، يكافئه بأن يُيَسر أموره ويدافع عنه ، يكافئه بأن يحفظه ويتولى أمره .
والله آية لعلها في سورة محمد عليه الصلاة والسلام :
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
( سورة محمد )
فهل شيء قليل أن يكون الله مولاك ؟ كل شيء بيده ، علمه مطلق ، غناه مطلق ، قدرته مطلقة ، هو وليُّك ..
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
( سورة محمد )
وازن بين طفلين ؛ طفل له أب ، عالم ، مربٍ ، مقتدر ، يرعى خلقه ، ويرعى جسمه ، ويرعى دينه ، ويرعى علمه ، ويرعى نفسه ، ويرعى حياته الاجتماعية ، فالطفل مهذب ، متفوق ، أنيق ، نظيف ، مضبوط ، وبين طفلٍ آخر لا أب له يرشده ، فالطفل شريد ، كلامه بذيئ، ينام في الطرقات ، منحرف الأخلاق . هذا الطفل له أب ، وله مرجع ، وله تربية ، وهذا الطفل بلا أب ، بلا مرجع ، بلا تربية ..
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
( سورة محمد )
فأنت حينما تصطلح مع الله ، وحينما تقبل عليه ، بماذا يكافئك ؟ يكافئك بوعودٍ قطعها على نفسه ، يكافئك أن ينصرك ، أن يقرِّبك ، أن يحفظك ، أن يوفِّقك ، أن ييسر لك أمورك ، يكافئك بأن يملأ قلبك غنىً، يملأ قلبك أمناً ، سعادةً ، رضىً ، هذه النِعَم التي هي في الدنيا يجعلها الله عز وجل متصلةً بنعم الآخرة ، هذه مكافأة الله لك ، يلهمك رشدك ، يسدد خطاك ، يعطيك رؤيةً ، الآن وصلت إلى محور الدرس ، يعطيك فراسةً .
إنسان يتدمر برؤية خاطئة بإنسان خدعه ، إنسان يتدمر بزوجة تشقيه ، بشريك مزعج ، يتدمر بورطة كبيرة ، يهلك بسوء نظر ، فالمؤمن محصَّن من أن يهلك برؤيةٍ ضبابية ، أو بموقفٍ مرتجل ، أو بورطةٍ لا طاقة له بها ، الله عز وجل يكرمه فيعطيه هذه الفراسة هذا الإدراك العميق الذي يتميز به عن بقية الناس ، المؤمن إنسان متميز يرى ما لا يراه الآخرون ، ويسمع ما لا يسمع الآخرون ، ويشعر بما لا يشعر الآخرون .
من فترة قريبة وجد رجل جامع أموال ، أرقامه فلكية ، وأرباحه خيالية وثق به الناس ووضعوا بين يديه أموالهم إلا أن بعض المؤمنين انقبضت نفوسهم ، فسحبوا أموالهم ، بعد حين كان هذا الجامع لأموال الناس محتالاً ، فضاعت الأموال كلها ، إلا لفئةٍ قليلةٍ بالفراسة استرجعت أموالها في الوقت المناسب هذه مكافأة من الله عز وجل .
قصص كثيرة ، صفقة تبدو لك وكأنك ستصبح بسببها غنياً ، الفراسة قد ترشدك إلى انقباض ، هذا الانقباض سبب حفظ مالك أحياناً ، في مكافأة من الله للمؤمن هي هذه الفراسة ، الفراسة ثابتة بالكتاب والسنة ، تعرفها العوام وتقول : الحر قلبه دليله . عندك قدرة على كشف الحقيقة بشكل متميز ، هذه القدرة هي الفراسة ، إنسان مخادع تحس بانقباض ، إنسان طيب تثق به ، إنسان بريئ تحس ببراءته ، إنسان مخادع تقول : ما اطمأننت له . بالرغم من أن كلامه مقنع ، كلامه رائع، مؤيد بكل الأدلة ومع هذا لم ترتح له ، هذه هي الفراسة .
الفراسة كشفت حقيقة هذا المخادع ، الفراسة كشفت براءة هذا البرئ، فهذه الفراسة جزء من إكرام الله للمؤمن ، جزء من ثمرات الإيمان ، جزء من الثواب الذي يعود عليك من عملك الصالح ..
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
( سورة الحجر )
للمتفرسين ، للناظرين ، للمعتبرين ، للمتفكرين .
في شيء آخر أيها الإخوة الله عز وجل يقول :
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
( سورة محمد : من آية " 30 " )
هذه آية أوضح :
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
( سورة محمد : من آية " 30 " )
فكم إنسان خدع إنساناً ؟ وكم إنسان احتال على إنسان ؟ وكم إنسان دمر إنساناً ؟
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منـك كما يروغ الثعلب
* * *
فالمؤمن محصن من أن يكون ضحية خديعةٍ ، أو ضحية مراوغةٍ، أو ضحية احتيال ، الله عز وجل يعطيه فراسة ، وهذا الشيء ثابت .
علماء الحديث أحياناً ، يقعون على حديث سنده صحيح ، ومتنه متماسك ، يقول : هذا الحديث ليس فيه رائحة النبوة ، صنَّفه العلماء حديث معلل ، أي فيه علة باطنة ، المتن صحيح ، والسند صحيح ، إلا أن عالم الحديث لفراسته شعر أن هذا الحديث لا تفوح منه رائحة النبوة ، قال لك : هذا الحديث ما قبلته . هذه فراسة .
الفراسة للمؤمن وحده ، وغير المؤمن لا فراسة له ؛ له حماقة ، وله تورط ، وله إيهام ، المؤمن له فراسة ، والقول الذي يتردد على كل الألسنة : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله".
هذا القول رواه الإمام الترمذي من حديث أبي سعيدٍ الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "
وله زيادة : " وينطق بتوفيق الله " .
إذن ..
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
( سورة محمد : من آية " 30 " )
إنسان دخل المسجد ليبحث عن رجلٍ صالح يعطيه أمانةً كبيرةً قبل أن يذهب إلى الحج ، لفت نظره إنسان يصلي بخشوع ، ويغمض عينيه ، ويطيل الركوع والسجود ، أعجبته صلاته ، قال له بعد أن انتهى من الصلاة : والله أنا أريد أن أضع عندك أمانة ، أنا ذاهب إلى الحج وقد أعجبتني صلاتك ، وتوسمت فيك الخير . قال له : وأنا أيضاً صائم يا سيدي . قال له : والله ما أعجبني صيامك ..
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
( سورة محمد : من آية " 30 " )
دائماً الإنسان له فلتات لسان ، هذه الفلتات تكشف عن حقيقته ، تكشف عن خبثه أحياناً ، تكشف عن دناءته دون أن يشعر ، المنافق الله عز وجل يكشفه بهذا الكاشف من فلتات اللسان ..
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ
( سورة محمد : من آية " 30 " )
لكن الله سترهم ، لو نشاء لرأيت النفاق عليهم ظاهراً ، ولكن سترناهم لعلهم يعودون إلى الله ، لكنك يا محمد لتعرفنَّهم بسيماهم ..
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
( سورة محمد : من آية " 30 " )
تجد وجهه لا ترتاح له ، فيه مشكلة ، ما في براءة ، المؤمن نوره في وجهه ، ضوء وجهه بريئ ، فيه طهر ، فيه بساطة ، والحقيقة الوجه مرآة النفس ، فنفسك تنعكس على وجهك ، لذلك الوجه هي وجه ذات، الخبث يظهر في الوجه ، والطيب يظهر في الوجه ، والمخادعة تظهر في الوجه ..
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
( سورة محمد : من آية " 30 " )
فالأول فراسة النظر والعين ، والثاني فراسة الأذن والسمع ، واللحن ضربان ؛ صوابٌ وخطأ ، فلحن الصواب نوعان أحدهما الفطنة ومنه الحديث :
" ... وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ "*
( من صحيح البخاري : عن " أم سلمة " )
أيضاً الفصاحة الزائدة ، والتشدُّق بالألفاظ ، والتقعر ، وأن تأتي بشواهد ، وأن تحفظ الشعر، هذا يبطن شيئاً ، قد لا يرضي ، فيه تصنُّع ، وتكلُّف ، والنفس تكره التصنع والتكلف ، والكلام البسيط أشد تأثيراً ووقعاً في النفس .
فقال : اللحن ضربان ؛ صوابٌ وخطأ ، الصواب نوعان أحدهما الفطنة ومنه الحديث لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ . ذكي ويستخدم ذكاءه شبكةً يوقع بها خصومه ، فطنته خبيثة ، والثاني التعريض والإشارة وهو قريبٌ من الكناية ، بالمناسبة أناسٌ كثيرون يتكئون على فتوى لعالم ، أنا أقول لهم : هل من عالمٍ أعظم من رسول ، من سيد الخلق وحبيب الحق ، ومن أوحى الله إليه ، ومن أيَّده بالمعجزات ، ومن جعله في قمة البشر ؟ ومع ذلك لو استطعت أن تستنبط أو أن تنتزع من فمه الشريف حكماً لصالحك ، ولم تكن محقاً في دعواك ، لا تنجو من عذاب الله ، وهذا الحديث شاهد :
" ... وَلَعـَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا "*
( من صحيح البخاري : عن " أم سلمة " )
فأنا اطمئن كل واحد معه فتوى من عالم بأن لا يرتاح لأنها لا تنفعه ، لا تجديه فتوى عالم ولا تنفعه يوم القيامة ، لا ينفعه إلا أن يكون مخلصاً لله عز وجل .
" ... وَلَعـَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا "*
( من صحيح البخاري : عن " أم سلمة " )
يتبـــــــــــــــع